نور على نور والأعجاز البلاغة
الله سبحانه وتعالى “ليس كمثله شيء”، به تنير الظلمات، وبه تنير الافئدة والقلوب، وبه تنير العقول والألباب، ولذلك فقد ضرب لنا سبحانه وتعالى المثل لنوره، ولم يضرب المثل لذاته، تعالى سبحانه عن المثيل والشبيه.
يقول سبحانه وتعالى في سورة النور: “الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكات فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري. يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور. يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم” (35).
النور لا يرى ولكن ترى به الأشياء، وحين سئل عليه الصلاة والسلام: هل رأيت ربك؟ قال: “نور أنَّى أراه”، وفي غياب النور يكون الظلام وتنعدم الرؤية، كما في قوله تعالى: “ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صم بكم عمي فهم لا يرجعون” (البقرة: 17 1.
نور وضياء
وفي حياتنا الدنيا فإن النور يأتي من انعكاس الضوء على الأشياء، فالأشياء المشتعلة كالنار وغيرها يصدر عنها ضوء، وهذا الضوء يسقط على الأشياء فتمتص منه موجات تحددها الوان هذه الأشياء وتركيبها وتعكس بقية الموجات على هيئة نور يصل الى اعيننا فنميز به ألوان وتفاصيل تلك الاشياء.. فالنور غير الضوء.
فالضوء يصدر عن الأجسام المشتعلة مصحوبا بحرارة وموجات كثيرة أخرى، وذلك مثل الشمس ومثل السراج والنار.
أما النور فيأتي من أجسام غير مضيئة بذاتها ولكن يصدر منها نتيجة سقوط الضوء عليها ولذلك لا تصحبه حرارة ملموسة، وذلك مثل القمر وكل الكواكب والاشياء غير المشتعلة، وانظر الى قوله تعالى في سورة نوح: “وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا”. (16). وفي سورة يونس: “هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا..” (5).
وهكذا يرتبط “الضياء” بالشمس المشتعلة بذاتها، ويرتبط (النور) بالقمر المعتم الذي لا نراه الا اذا سقط عليه ضوء الشمس. وبذلك يصل ضوء الشمس الى القمر، والى الأرض مخترقا جو السماء بما فيه من جزيئات كثيرة لغازات مختلفة وبخار ماء ودخان وغير ذلك حيث يصل الينا منه ما يصل بما فيه من حرارة ومن اشعاعات بعضها مفيد وبعضها ضار، كما يؤدي امتصاص موجات معينة من ضوء الشمس في طبقات الهواء المختلفة الى تكون اللون الازرق المميز للسماء في كل مكان على الأرض.
أما نور القمر فيصلنا صافيا هادئا لا حرارة فيه ولا ضرر منه على الأعين، وينعكس نور القمر كذلك على الأشياء فنستطيع رؤيتها ليلا، أما اذا سقط ظل الأرض على القمر ومنع بذلك ضوء الشمس من الوصول اليه فإننا لن نرى القمر نفسه ويظلم الليل إلا من نجوم السماء البعيدة أبعادا خيالية عنا.
إعجاز بلاغي
هذا هو ما ندركه من النور في حياتنا الدنيا وما نعرفه عنه، أما نور الله عز وجل فهو نور ليس كمثله نور، ينير الابصار، وينير البصائر وينير القلوب والافئدة والعقول، وذلك أمر لا يمكن وصفه أو إدراكه. ولذلك يضرب له الحق تبارك وتعالى المثل بأمور نحسها ونشعر بها، وذلك لقصور حواسنا وقصور إدراكنا عن معرفة كثير من مخلوقات الله، فكيف بنوره عز وجل؟
“كمشكاة فيها مصباح”، يبدأ المثل بالمشكاة، والمشكاة عبارة عن تجويف في جدار ( نيش كما يقولون عنه) يوضع فيه مصباح أو تحفة أو أي شيء آخر. وله أشكال عدة، والمقصود هنا المشكاة المخصصة للمصباح حيث تحيطه جدران المشكاة من كل ناحية ما عدا جانباً واحداً يخرج منه الضوء، والمصباح بذلك يضيء المشكاة اضاءة قوية وينعكس منها النور الى خارج المشكاة.
“المصباح في زجاجة” وذلك أن وضع المصباح في زجاجة يزيد بشكل كبير من قوة الاضاءة وانتشارها بعكس ما لو ترك المصباح هكذا من دون زجاجة تحيط به من كل ناحية، وهذه هي الفكرة وراء استخدام الزجاجات حول مصادر الضوء سواء كان ذلك المصدر شمعة أو فتيلا مشتعلا أو سلكا كهربائيا متوهجا.. وبذلك تزيد الزجاجة من قوة اضاءة المشكاة الموضوع بها المصباح.
“الزجاجة كأنها كوكب دري”. وهنا يأتي نوع آخر من البلاغة والإعجاز. فالزجاجة هي التي كأنها كوكب. والكوكب لا يصدر ضوءا وإنما يعكس ما يقع عليه من ضوء فيصدر نورا نرى به الكوكب.. وبذلك فإن الزجاجة يسقط عليها ضوء المصباح فتحيله نورا ينتشر في جنبات المشكاة، فالزجاجة هي التي كأنها كوكب وليس المصباح.. ثم ان الزجاجة لصفائها ونقائها كالكوكب الدري أي الفائق الصفاء والنقاء، لا شائبة فيه، من الدرة وهي الشيء النفيس الذي لا مثيل له ولا نظير لندرته.. وبذلك فالنور الخارج من الزجاجة نور نقي لا شائبة فيه ولا أثر لظلال شوائب.
“يوقد من شجرة مباركة”. ويعود الفعل (يوقد) هنا على المصباح، فهو الذي يوقد، ولا يعود على الزجاجة فالزجاجة لا توقد، كما أنه لا يقصد به (الكوكب الدري) فالكوكب لا يوقد ولا يصدر ضوءا ولا حرارة وإنما يستقبل الضوء ليمتص منه جزءا ويعكس الباقي.
والوقود هنا من نوع خاص متميز، من شجرة مباركة من الخالق عز وجل وهي “زيتونة لا شرقية ولا غربية”، فإن أنقى أنواع الزيوت للمصابيح هو زيت الزيتون، وأجود أنواع الزيتون هو من مثل تلك الشجرة التي تستقبل اشعة الشمس طوال اليوم من الشروق وحتى الغروب، وبذلك تستمر عمليات الأيض الحيوية فيها بنشاط طوال اليوم منتجة بذلك اجود أنواع الزيتون وبالتالي أجود أنواع الزيت، “يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار” فقد بلغ ذلك الزيت درجة عالية من النقاء والصفاء والجودة حتى كأنه يكاد يضيء من دون حاجة الى نار لتشعله، فما بالك حينما تمسسه النار فيضيء ضوءا متميزا صافيا لا تشوبه شائبة.
آيات بينات
وهكذا تكتمل الصورة والمثل القرآني، فها هو المصباح يوقد بأجود أنواع الزيت، فيصدر عنه ضوء قوي صاف، ينعكس على جزيئات زجاجة نادرة الصفاء والنقاء، فتتوهج وينتشر منها نور قوي ينتشر في كل اتجاه، وينعكس على جنبات المشكاة فيضيء كل جزء فيها ولا يدع مكانا لظلام، وتستقبل العين النور من الزجاجة ومن والمشكاة المتلألئة الإنارة.. نور ونور.
هذا المثل القرآني البسيط المعبر المعجز لنور الله عز وجل، وذلك هو النور المادي الذي نرى به المشكاة والمصباح والزجاجة فلا تخطئه العين ولا تعيب عنها دقائق تلك الأشياء، ولكن نور الله ليس كمثله نور، فهو نور يهدي به الله من يشاء من عباده، ويعمي كثيراً من الناس عنه، لهم عيون ولكنهم فقدوا البصيرة، فهم معزلون عن نور الله، يعيشون في ظلال الكفر والنفاق، لا يؤمنون بالله، ولا يرون آيات الله المحيطة بهم في كل مكان وفي انفسهم فهم لا يبصرون.
فبنور الله نهتدي لله وملائكته وكتبه ورسله، وبنور الله نرى آيات الله بينات، وبنور الله ندرك حقائق الأمور ونسير على صراط الله المستقيم.
“والله بكل شيء عليم”
والله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم من يهتدي ومن لا يهتدي، يعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، فيهدي اليه سبحانه من يشاء من عباده، ممن يرى فيهم القابلية للهدى، فيبصرون بنوره ويهتدون بنوره ولا يقبلون إلا نوره سبحانه وتعالى.
ودمتم بالف خير