*موقف الفقه و القضاء فيما يخصّ تحديد الطبيعة القانونية للوديعة المصرفية :
سبقت الإشارة إلى أنّ الودائع النّقدية التي يتلقاها البنك من الجمهور تعدّ أهم مصدر من مصادر السيولة التي تمكنه من قيّامه بعملية الإقراض و تمويل المشروعات .
و إنّ الفقه و القضاء المقارن قد إختلف فيما يتعلق بالتكييف القانوني لهذه الودائع ( أو لعقد إيداع النقود )، فذهب في هذا الخصوص مذاهب شتّى يمكن إجمالها فيما يأتي من النّقاط :
1 ـ الـرأي الأول : الوديعــة المصرفيـــّة وديعـــة عاديـــة ( تامــة ) :
إنّ عقد إيداع النّقود يقترب من عقد الوديعة العادية ورد تعريفها في نص المادة 590 من القانون المدني الجزائري ، و ذلك بالنظر إلى غلبة فكرة حفظ الشيء المودع ( النقود ) عليه .
و الأخذ بهذا الرأي يترتب عليه عدة نتائج هي :
أ ـ يلتزم البنك - المودع لديه ـ التّمسك بالمقاصة ، ذا طالبه العميل المودع برّد مبلغ الوديعة ، و كان قد نشأ لهذا البنك دين عليه أثناء سريان عقد الإيداع .
ج ـ لا يسأل البنك عن هلاك الشيء المودع ، إذا هلك هذا الأخير بقوّة قاهرة ، و ذلك تطبيقا للقاعدة القاضية : " بأنّ هلاك الشيء يكون على مالكه ".
د ـ يعتبر تصرف المودع عليه في الشيء المودع بمثابة تبدبد بتعرض مرتكبه للعقوبة المقررة لجريمة
خيّانة الأمانة ( نص المادة 376 ق ع ج ) .
و في الواقع عجز هذا الرأي عن التّكييف القانوني السّليم لعقد إيداع النقود ( أو الوديعة المصرفية )
ذلك أنّ النتائج المترتبة على الأخذ بفكرة الوديعة العادية لا تستقيم مع ما يجرى عليه العمل و ما تقتضي
به العادات لا تستقيم مع ما يجرى عليه العمل و ما تقضى به العادات المصرفيّة : ففي الوديعة النّقدية
المصرفية يحق له التصرّف فيه كما يشاء ، و من ثمّ يكون هلاك المبلغ بالمقاصة إذا أصبح البنك دائنا
للعميل المودع أثناء قيام عقد الإيداع و ذلك خلافا لما تقضي به المادة 299 من القانون المدني الجزائري
حيث ورد بها مايأتي :" تقع المقاصة مهما إختلفت مصادر الديّون فيما عدا الحالات التالية :
إذا كان أحد الدينين شيئا نزع دون حق من يد مالكه و كان مطلوبا ردّه .
إذا كان أحد الدّينين شيئا مودعا أو معارا للإستعمال و كان مطلوبا ردّه .
إذا كان أحد الدّينين حقّا غير قابل للحجز ".
لكل ذلك يجمع الفقه اليوم على عدم تطبيق أحكام الوديعة العادية المنصوص عليها في القانون المدني .
2 ـ الـــرأي الثانـــي : الوديعــة المصرفيــة وديعــة ناقصـــة :
يذهب هذا الرأي إلى تكييف الوديعة المصرفية على أنّها وديعة ناقصة .
- و الوديعة الناقصة هي تلك التي يكتسب فيها المودع لديه ملكية الشيء المودع و لا يلتزم إلاّ بردّ مثله
نوعا و مقدارا .
و لو كان هذا التكييف القانوني صحيحا ، لوجب تطبيق أحكام الوديعة النامة على الوديعة المصرفية إلاّ ما
تعلق منها بملكية الشيء المودع ، و لترتب على هذا الأمر ، عدم جواز المقاصة بين إلتزام المودع لديه بردّ الشيء و بين حق يكون له تجاه المودع ، و لتحتّم على البنك أيضا أن يحتفظ دائما بما يماثل
الشيء المودع من حيث النوع و المقدار حتى يكون على إستعداد لمواجهة طلب المودع بالرّد
( نص المادة 594 من القانون المدني الجزائري : " يجب على المودع لديه أن يسلّم الشيء إلى المودع
بمجرّد طلبه إلاّإذا ظهر منالعقد أنّ الأجل عيّن لمصلحة الموذع لديه ...".
على أنّ هذا الرأي لم يسلم من النّقد أيضا ، و ذلك لأنّ البنك لا يلتزم بأن يحتفظ دائما في خزائنه بمقدار ما
يساوى المبالغ المودعة ، بل يجب أن يتمتع بحريّة التّصرف فيها في منح القروض و تمويل المشروعات .
و القول بخلاف ذلك يؤدي إلى تعطيل نشاط البنك الإئتماني . و إن الذي يقوم به البنك في الواقع ، هو
الإحتفاظ في خزائنه بنسبة معينة من الأموال لمواجهة إحتمالات طلب المودعين برد أموالهم.
3 ـ الـــرأي الثالـــث : الوديعـــة المصرفيـــة عقـــد قـــرض .
تعريف القرض : نص المادة 450 من القانون المدني الجزائري : " قرض الإستهلاك هو عقد يلتزم به
المقرض أن ينقل إلى المقترض ملكية مبلغ من النّقود أوأي شيء مثلي آخر ، على أن يرّد إليه المقترضعند
نهاية القرض نظيره في النوع ، و القدر ، و الصفة ".
يذهب هذا الرأي إلى إعتبار الوديعة النّقدية المصرفية بمثابة عقد قرض بين المصرف ( و هو المقترض )و
العميل ( و هو المقرض ) ، و بموجب هذا العقد يتملك المصرف المبلغ المودع لديه و يستخدمه في نشاطه
كما يشاء مع منحه العميل فائدة على ذلك و مع إلتزامه برّد شيء مماثل للوديعة في أجل محدّد.
ـ كما يذهب هذا الرأي إلى القول بأنّ هذا التكييف القانوني للوديعة المصرفية يتماشى مع ما تقضى به
المادة 598 من القانون المدني الجزائري المشار إليها أعلاه.
ـ و حيث أنّ المصرف في هذا العقد غير ملزم برّد الوديعة عينها ، و إنما ـ كما سبق القول ـ هو ملزم
فحسب برّد ما يماثلها نتيجة تملكه لهذه الوديعة فلا يعدّ مودعا بالمعنى الذي ورد في نص المادة 590 من
القانون المدني الجزائري السابق الإشارة إليها .
و يترتب على ذلك نتائج هامة يمكن تلخيصها فيما يأتي :
أ ـ إذا ما تصرف البنك في المال المودع لديه بإستخدامه في نشاطه ، فإنه لا يعدّ مرتكبا لجريمة خيانة
الأمانة، ذلك لأنه مالك لهذا المال و ليس أمينا عليه ، كل هذا بشرط ألاّ يكون المودع قد إشترط في العقد
المبرم مع البنك عدم جواز إستخدامه في أعماله المصرفية .
ب ـ يجوز للمصرف ، الدّفع بالمقاصة ـ + عند طلب العميل ردّ ماله ، و كان قد نشأ
لهذا المصرف حق له في ذمة المودع أثناء سريان عقد إيداع النقود .
ج ـ لا تبرأ ذمة المصرف من إلتزامه بالرّد إذا ملك المال المودع بسبب قوة قاهرة ، بل يظل ملزما برّد
مثله للمودع ، وذلك لأنّ هلاك الشيء يكون على صاحبه .
ـ و قد وجّه لهذا الراي عدّة إنتقادات مفادها :
أـ أنّ الوديعة المصرفية قد تكون واجبة الرّد لدى الطلب ، بينما يفترض القرض لزاما أجلا للرّد ، و عليه
فإنّ الوديعة تحت الطلب لا يمكن إعتبارها قرضا .
ب ـ كما أنّ الوديعة المصرفية قد لا تنتج فائدة لمصلحة العميل المودع .
و قد ردّ على هذه الإنتقادات بالقول : إنّ الأجل ليس عنصرا ضروريا في عقد القرض و أنه ليس هناك ما
يمنع من أن يكون القرض واجب الرّد عند الطلب . كما أنّ الفائدة ليست من خصائص أو مستلزمات
هذاالعقد و إن كانت من طبيعته .
و يلاحظ هنا أنّ الإتجاه السّائد ( فقها و قضاء ) في مصر يميل إلى إعتبار الوديعة مقرونة بأجل و منتجة
فائدة مالية للمودع . أمّا في فرنسا فلم يزل الفقه و القضاء متردّدين بشأن تحديد طبيعة هذه الوديعة القانونية
خاصة و أنّه لا يوجد في القانون المدني الفرنسي نص شبيه بنص المادة 598 ق م ج ( م 726 قانون مدني
مصري ) المذكورة أعلاه . و لهذا نجد إتجاها يذهب إلى تبنّي فكرة القرض كوصف حقوقي للوديعة النّقدية
المصرفية ، بينما يذهب إتجاه آخر في هذا البلد إلى إعتبارها وديعة ناقصة أو عارية إستهلاك، بينما يرجح
إتجاه ثالث في الفقه فكرة " العقد ذو الطبيعة الخاصة " أو بمعنى آخر ، إنّ الوديعة النّقدية المصرفية عقد
من نوع خاص متميز عن العقود المدنية المسماة و أنه لا فائدة من محاولة تطويعه لإدخاله في إطار عقد
من العقود المدنية المعروفة .
و في هذا القول الفقيه " إسكارا " ESCARRA أنه " لإمناص من إعتبار المسألة مسألة واقع و أنّ على
قاضي الموضوع أن يبحث القصد الحقيقي للمتعاقدين ( البنك و المودع ) دون التقيد بفكرة عقد معيّن ،
وعلى أساس هذا القصد يتخذ العقد صفته ".
4 ـ الرأي الرّابع : يتوقف الوصف القانوني للوديعة النّقدية المصرفية على الغرض المقصود منها ، أو
بمعنى آخر ـ تختلف الطبيعة القانونية لعقد الوديعة النّقدية المصرفية - رغم التّسمية المستقرة - تبعا لما
تكتشف عنه الشروط إحتواها هذا العقد.
أ ـ فإذا كشفت هذه الشروط أنّ المودع توخىمجرّدحفظ المال لدى البنك المتلقى مع إلتزام هذا الأخير بردّه
بعينه أي وقت يطلبه العميل مما يتستتبع إمتناعهعن إستعماله ، كان هذا العقد وديعة تامة .
* و تجدر الإشارة هنا ، إلى أنّ إستخلاص الوصف القانوني لهذا العقد من خلال تقصّى إرادة طرفية ، أمر
متروك لتقدير قاضي الموضوع مع خضوعه في هذا المقام لرقابة المحكمة العليا ( بصفتها محكمة قانون)
و ذلك على أساس أنّ إنزال الوصف القانوني على العلاقة التي تربط المصرف بالمودع من المسائل
القانونية التي تختص هذه المحكمة بمراقبتها .
* و ربما يعتبر هذا الرأي الأخير أقرب إلى الصّواب ، خاصة و أنّ العديد من التشريعات قامت بقطع دابر
الخلاف ، و ذلك بوضع تعريف للوديعة النّقدية المصرفية بما لا يخرجها عن كونها نوعا من عقد القرض
يكون للبنك ، بمقتضاه ، حق تملك الوديعة بمجرّد إستلامها من المودع و التّصرف فيها على أن يردّ
للمودع مبلغا مما ثلا لها . و من التشريع السوري و تشريعات الخليج العربي و التشريع الجزائري .
فبرجوعنا إلى نص المادة 1/111 من قانون النّقد و القرض لسنة 1990 نجدها تقضي بما يأتي : " تعتبر
أموال متلقاة من الجمهور ، تلك التيذ يتم تلقيها من الغير ، و لا سيما بشكل و دائع ، مع حق إستعمالها
( التصّرف فيها ) لحساب من تلقاها بشرط إعادتها ".
Article n° 111/1 : Loi n° 90-10 du 14 avril 1990 relative à la monnaie et au credit :
« Sont considérés comme fonds reçus du public les fonds recueillis de tiers , notamment sous forme de dépots , avec le droit d’en disposer pour son propre compte , mais à charge de les restituer ».
- وقد كانت المادة 1/35 من القانون الملغى رقم 12/86 المؤرخ في 19 غشت سنة 1986 ، المتعلق بنظام
البنوك و القرض ، دينا على هذه المؤسسة سواء في ذلك أصل هذا المبلغ أو فوائده المحتملة " . و بهذا
تكون هذه المادة أيضا قد حسمت مسألة التكييف القانوني للوديعة النّقدية المصرفية إذ إعتبرها دينا أي في
حكم القرض الذي يحب ردّه ، هذا من جهة ثانية نجد قرارا صادرا من المحكمة العليا الجزائرية بتاريخ
1994/01/10 و في قضية التعاونية ب أ م - ضد بنك ت م ، القرار المنتقد ، تبيّن أنّ موضوع النزاع
القئم بين الطرفين يتعلق بالحساب البنكي الخاص بالطاعنة و المفتوح لدى المطعون و سلمه إلى مقاولة
الأشغال لبلدية قمار بدون إذن صاحبه الحساب .
حيث أ نّ المطعون ضدّه بنك التّنمية المحليّة و كالة الوادي إدعى أنّ المبلغ المذكور أخذه من حساب
الطاعنة بناء على أمر الوالي بصفته الوصيّ على المؤسسة ، غير أنه لم يقدم أي دليل على ذلك ، هذا من
جهة ، و من جهة ثانية فإنّ البنك المودع لديه الممبلغ المذكور مسؤول عنه و لا يمكن وضعه على سبيل
الوديعة و ليس لغرض الإتجار به لربح نسبة مائوية معينة ، مما يجعل القول بأنّ الوجه المشار مؤسس
ويستجاب له ... ".
و معنى هذا ، أنه إذا كانت الوديعة النقدية المصرفية تعدّ في غالبي الأحوال بمثابة عقد قرض
( م 1/111 من قانون النّقد و القرض لسنة 1990 م ) ، فإنه إذا من مضمون العقد المبرم بين البنك شخص
المودع . أنّ هذا الأخير قد قصد من عملية الإيداع مجرد حفظ المال المودع دون تخويل المصرف حق
إيستخدامه مقابل فائدة تمنح للمودع ، فإنّ عملية الإيداع هذه ، تعد بمثابة مقابل فائدة تمنح للمودع ، فإنّ
عملية الإيداع هذه ، تعدّ بمثابة عقد وديعة و ليس عقد قرض ، و من ثمّ لا يكون من حق المصرفالتّصرف
فيه .